خلال الأيام الماضية، تصدرت عدداً من كبريات الصحف والمجلات الأجنبية صور تظهر الجماعات المسلحة في سورية من جبهة نصرة وتكفيريين يرتكبون جرائم وحشية، وما بين هذه الصور شهادات لصحفيين غربيين تصب في الإطار نفسه.
ليست الصور التي نشرتها مجلة “التايم” الأميركية و”الدايلي مايل” البريطانية و”باري ماتش” الفرنسية لمسلحين ينحرون ويقتلون وينكلون، بجديدة لجهة الفعل الذي تظهره بمعزل عن تاريخها. وليست الشهادات التي تناقلها عدد من الصحفيين عن مجازر شاهدوها بأم أعينهم بغريبة على مسامعنا. ما نشر وقيل في الإعلام الغربي مؤخراً عن “ثورة فقدت شرفها” وعن مجازر ترتكب وعن عمليات إعدام جماعية وتطهير لقرى وبلدات، يتكرر كل يوم في سورية.
على أهمية انتشار هذه الصور وسط الرأي العام الغربي لمعرفة حقيقة ما يجري في سورية إلا أن هذا لا يلغي التساؤل عن أسباب هذا التسابق الإعلامي الغربي لنشر هذه الصور في هذه المرحلة بالذات. سؤال أكثر ما يشرعه أداء وسائل الإعلام الغربية على مدار هذه الأزمة منذ بدايتها. فكيف تعاملت مع الحدث السوري؟
يتحدث كريستوف ريفييار Christophe Reveillard الباحث والأستاذ في جامعة السوربون في باريس في دراسة عن “الأزمة السورية ووسائل الإعلام”، عن ثلاث مراحل مرت بها معالجة وسائل الإعلام الغربية للأزمة السورية.
المرحلة الأولى جرى خلالها إسقاط للنموذج الليبي على الأحداث في سورية لجهة ما يدور من حرب أهلية. ولكن في ضوء الواقع المحلي ومقاومة النظام وغالبية الشعب لدوامة الحرب الأهلية كان على الصحفيين الغربيين أن يعيدوا ترتيب صفحاتهم. هنا كان اللجوء في المرحلة الثانية إلى مصادر ووسائل إعلام قليلة المصداقية حتى إن بعضها ساهم في زعزعة الإستقرار في البلاد. ومن بين المصادر التي عددها الباحث الفرنسي واعتمد عليها إعلاميو الغرب : المرصد السوري لحقوق الإنسان التابع للمعارضة، المجلس الوطني السوري المعارض، الجيش السوري الحر ووسائل إعلام سعودية وقطرية وتركية مناهضة بشكل واضح للنظام في دمشق، ومن القنوات التي سماها الباحث الفرنسي قناتا الجزيرة والعربية.
أما المرحلة الثالثة فبدأ فيها الموضوع السوري يختفي عن الصفحات الأولى نسبياً فيما بدأت تتسرب بعض المعلومات عن المراحل الأولى للأزمة من قبيل الدور الحقيقي للقوى الخارجية، والتضليل الإعلامي، وعمليات الاختطاف ودور العناصر الجهادية الأكثر تطرفاً.
إلى هذه المراحل التي ذكرها ريفييار ربما تضاف اليوم مرحلة رابعة، أسماها البعض “يقظة” الإعلام الغربي ورأى فيها كثيرون تحولاً في أداء هذا الإعلام.. من الواضح جداً أن ما يجري اليوم هو تحول، ولكن هل هو تحول بريء أو بالأحرى منعزل عن التحول السياسي العام في المشهد والاستدارة الأميركية والغربية عموماً نحو الحل السياسي في سورية؟
الرأي العام الغربي قاد إعلامه هذه المرة
المتابعون للإعلام الغربي يرون أن ما يحكى عن “يقظة” أمر مبالغ فيه وأن ما جرى يمكن مقاربته من زاويتين: طبيعة الدور الذي لطالما اضطلع به الإعلام في الغرب، فهو لم يكن يوماً مؤسسة مستقلة بذاتها بل يشكل أحد أعمدة المؤسسة الحاكمة وامتداداً لها، فضلاً عن كونه ضلعاً مباشراً في صناعة وتغليف صناعة القرار. والزاوية الثانية هو الرأي العام الغربي الذي شكل عامل ضغط لم يكن بالإمكان تجنبه.
المتخصص في الشأن الأميركي والمتابع للإعلام الغربي الدكتور منذر سليمان يرى أن تراجع الخطاب الإعلامي ترافق مع تراجع حظوظ العدوان مؤكداً أنه لو حصلت الضربة العسكرية لسورية لوجدنا هذا الإعلام منخرطاً في الحرب فهو “إعلام يعيش على الحروب والأزمات على المستوى المادي والاقتصادي”.
يتحدث سليمان كيف أن بعض محطات التلفزة جهزت استديوهاتها بما ينسجم مع أجواء الحرب، كما هو الحال بالنسبة لـ”سي ان ان” والاستديو الخاص بأحد أبرز صحفييها أندرسون كوبر، وكيف أن الصحفية الشهيرة في القناة أمانبور تحولت إلى جنرال عسكري.
لا يرى مدير مكتب قناة “الميادين” في واشنطن أن الصور التي نشرتها مجلة “التايم” الأميركية هي السمة العامة لوسائل إعلام كان أداؤها “مزرياً” على حد وصفه حيث لا مكان لوجهات النظر المختلفة. فالجامع بين مختلف التوجهات الإعلامية الأميركية هو تأييدها لإسرائيل وبالتالي قد يفهم نشر الصور على أنه لجم لإسرائيل في إندفاعتها نحو الحرب على سورية. “أرادوا إنقاذ إسرائيل من نفسها بالقول إن هذه مخاطرة غير محسوبة”.
“لا يقظة في الإعلام الأميركي” يحسم سليمان مستنداً إلى نموذج معلولا، ما جرى في هذه البلدة التاريخية غاب عن وسائل الإعلام الأميركية لأيام عديدة. نموذج عن غرب يصفه كثيرون بذي الغالبية المسيحية . غرب يتشدق بالدفاع عن حقوق الأقليات من جهة فيما يتجاهل إعلامه ما يجري لأقلية مسيحية على أيدي جماعات تكفيرية وإرهابية من جهة اخرى .
“لا يقظة في الإعلام الأوروبي أيضاً” تؤكد بدورها الكاتبة والصحافية سكارليت حداد قائلة “إن الإعلام الأوروبي عموماً والفرنسي على وجه الخصوص عبارة عن أوركسترا تتناغم مع القرار السياسي”. شواهد كثيرة توردها حداد عن ندرة المقالات التي تعكس الرأي الآخر، عن منع زملاء أوروبيين من نقل الجانب الآخر من الصورة، عن وجوه هي نفسها يمكن رصدها على مختلف القنوات.
كيف يمكن إذاً فهم ما نشرته “باري ماتش” مثلاً من صور تظهر جرائم العناصر الإرهابية والتكفيرية في سورية؟
“الصور التي نشرت تنسجم مع أجواء التسوية الحالية وربما يراد من خلالها تبرير أي خطوة سياسية مستقبلية تجاه النظام السوري” تجيب الصحافية في “لوريان لو جور” المتابعة للإعلام الفرنسي، مضيفة أنه “إذا تغيرت المعطيات السياسية مجدداً فإن أداء الإعلام سيتغير من جديد”.
بحسب دكتور منذر سليمان فإن الأمور لم تصل إلى هذا الحدّ لجهة خطوات سياسية تجاه النظام او التفاف على المعارضة أقله على المستوى الأميركي، هنا يستعرض الزاوية الثانية وربما الأهم التي يجب من خلالها مقاربة الأداء الإعلامي الغربي مؤخراً، “الرأي العام”.
يقول إن “تعديل الموقف في الإعلام الغربي هو نتيجة أمر واقع فرضه تبدل مزاج الرأي العام فضلاً عن الأجواء السلبية في الكونغرس تجاه ضربة عسكرية على سورية”، مؤكداً أن “هذا لا يعني أن الإعلام توقف عن أداء دوره في صياغة الرأي العام أو أن أجندته تبدلت لكنه اضطر إلى تعديل طريقة تصرفه هذه المرة تفادياً لمواقف يمكن أن تضعه في موقع السخرية”.
بدورها، ترى سكارليت حداد أنه لم يعد بإمكان وسائل الإعلام في الغرب السيطرة على الرأي العام في ظل الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي حيث لم يكن بالإمكان على سبيل المثال إيقاف انتشار صورة “آكل الأكباد” الشهيرة. وبالتالي فإن أداء الإعلام الغربي على مدى أكثر من سنتين من الأحداث في سورية فشل في تجنيد رأي عام يهلل تأييداً للحرب حين بدأت تقرع طبولها.