الكاتب: إياس غالب الرشيد
لا أدري ما العلاقة الفلسفية العميقة بين الإنسان وسعيه الحثيث للتماهي مع الطين .
بعض خبراء علم النفس والتنمية البشرية ، يقولون: إنه حنين الإنسان لأصله ، وبعضهم يقول : إن الإنسان يزهد بالمدنيَّة ، فيعود إلى الطبيعة، ويضربون مثلاً على ذلك اعتماد الرميكية في يوم الطين ؛ تُراجع القصة في مظانها الأدبية ، وبعض الأطباء يقولون : إن أكل الأولاد للتراب بسبب نقص الكلس .
وبعض العجائز تزعم أن ذلك له علاقة بالأم المعفنة؛ التي تلد أولاداً يسري العفن في أوصالهم، ويضربن على ذلك عجيان زايد مثالاً.
المهم الموضوع بين أخذ ورد , عندما كنا صغاراً كنا نخرج برفقة الأهل إلى البساتين أو المزارع ، وكان أخوتنا الكبار بتوصية من الأهل يطاردوننا بين الأشجار ، وهم يعنفوننا ، ويكررون الوصية: لا تلعب بالطين .. ابعد عن الطين …. كنت أقول في خلدي : بشو نلعب لكان ؟؟
انقسم العالم قبل الثورة الرقمية إلى قسمين ؛ قسم يفهم ومثقف ، ومشبع بالمثل، ولهم وحدهم المنصات ؛ التي تعبر عن أفكارهم ، كالمساجد، والكنائس ، والمراكز الثقافية ،والفر ق الحزبية ، والمجلات ، والدوريات الأدبية المحكمة ، وقسم آخر يجب أن يتلقى هذه الوجبات الثقافية الجاهزة؛ التي تراها الأنظمة ، ويحرم على كل من لا ينتمي لهذه الدوائر أي منصة للتعبير عن أفكاره ، وتحولت الكتابة ، إلى مجموعة من القوالب الكلاسيكية الجاهزة ، يصب فيها هؤلاء المحتوى العميق نفسه، وتم القضاء على الكتابة بوصفها تعبيراً عن الوجدان الجمعي دون رقابة .
انطلقت الثورة الرقمية، وصار الفيس وتويتر ، منصات للتعبير بأشكال مختلفة، فوقفت هذه النخب ضد هذه الحالة الجديدة ، واتهمتها بالسطحية ، والعبث الذي لن يفضي إلى شيء ، وبدأت تحاصر هذه الظاهر الجديدة ، ثم اكتشفوا أن الشعب يبيت على الفيس بوك ، وصاروا دون جمهور؛ فأسرعوا، وركبوا فركونة قطار الفيس بوك.
نزل مثقفو النخبة بالبالطو الرسمي، والنظارات الثقافية ، وسيرة ذاتية فيها كتب مطبوعة، ومنشورات في دوريات محكمة ، ثم بدأ الدور الرقابي ؛ لماذا ينشر هؤلاء صوراً شخصية بين الفينة والأخرى ، هذا مرض نفسي ، وقد تكلم عنه فرويد وسماه عقدة ملحيس ، والذي ينشر صور أولاده يعاني من عقدة جاسم ، والذي يكتب في السياسة ثرثار يصدع الرأس ، والذي يستخدم لغة خادشة ، عنده عقدة طويسان ، من ينتقد العلماء والمفكرين عنده عقده بسطاويسي ، هذا الفيس بوك يعجح بالمهووسين والمحطمين نفسياً.
الفيس بوك ليس كتاباً للوجه -على الأقل في ثقافتنا العربية- هو هروب البروليتاريا ، من النخب، التي خذلتها ، وسقطت رسمياً مع سقوط الأنظمة ، وبدأ عصر الحريات الفكرية، الذي يعد منجزاً إنسانياً من حق البشرية جمعاء ، ومن حق هذه البشرية أيضاً أن تعبر عن ذاتها كما تراها كما رسمتها سابقا على جدران الكهوف.
بالمحصلة نحن هربنا من الرسمي إلى ما وراء حيط العالم ، لنلعب بالطين، وتركنا لكم كل المجلات المحكمة والمنصات الثقافية ، وتذكر أنك من تبعنا إلى هذا المكان ..
يا أخي اتركونا نلعب بالطين ..
إياس غالب الرشيد أكاديمي وإعلامي سوري ، له ديوان شعر : صلوات في محراب فيروزي ، ومجموعة قصصية بعنوان :هل ظهر جعموم ، والخصائص البلاغية في شعر ابن خفاجة الأندلسي تحت الطبع